يقول أحد الدعاة: كنت في رحلة إلى أحد البلدان لإلقاء عدد من المحاضرات، وكان ذلك البلد مشهوراً بوجود مستشفى كبير للأمراض العقلية أو كما يسميه الناس مستشفى المجانين.
ألقيت محاضرتين صباحاً وخرجت وقد بقي على أذان الظهر ساعة، وكان معي رجل اسمه عبد العزيز من أبرز الدعاة، التفت إليه ونحن في السيارة وقلت له: هناك مكان أود أن أذهب إليه مادام في الوقت متسع.
قال: أين؟. قلت: مستشفي الأمراض العقلية.
قال: المجانين! قلت: المجانين. فضحك وقال مازحاً: لماذا، تريد أن تتأكد من عقلك؟ .
قلت: لا، ولكن نستفيد.. حتى نعرف نعمة الله علينا، سكت عبد العزيز يفكر في حالهم.
شعرت أنه حزين.. كان عبد العزيز عاطفياً أكثر من اللازم.
ذهبنا إلى المستشفى وأقبلنا على مبنى كالمغارة الأشجار تحيط به من كل جانب، كانت الكآبة ظاهرة عليه.
قابلنا أحد الأطباء رحب بنا ثم أخذنا في جولة في المستشفى.
أخذ الطبيب يحدثنا عن مآسيهم ثم أخذنا إلى أحد الممرات فسمعت أصوات هنا وهناك.
كانت غرف المرضى موزعة على جانبي الممر، مررنا بغرفة عن يميننا نظرت داخلها فإذا أكثر من عشرة أسرة فارغة إلا واحد منها قد انبطح عليه رجل ينتفض بيديه ورجليه. سألت الطبيب: ما هذا؟.
قال: هذا مجنون ويصاب بنوبات صرع تصيبه كل خمس أو ست ساعات. قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله منذ متى وهو على هذه الحال؟
قال: منذ أكثر من عشر سنوات. كتمت عبرة في نفسي ومضيت ساكتاً بعد خطوات مشيناها مررنا على غرفة أخرى بابها مغلق وفي الباب فتحة يطل من خلالها رجل من الغرفة ويشير لنا إشارات غير مفهومة حاولت أن أسرق النظر داخل الغرفة فإذا جدرانها وأرضها باللون البني.
سألت الطبيب: ما قصة هذا الرجل؟!.
فقال: هذا الرجل إذا رأى جداراً ثار وأقبل يضربه بيده، وتارة يضربه برجله، وأحياناً برأسه، فيوماً تكسر أصابعه ويوماً تكسر رجله, ويوماً يوشج رأسه.. ولن نستطيع علاجه فحبسناه في غرفة كما ترى جدرانها وأرضها مبطنة بالإسفنج.
ثم سكت الطبيب ومضى أمامنا ماشياً أما أنا وصاحبي عبد العزيز فظللنا واقفين نتمتم الحمد الله الذي عافنا مما ابتلاك به.
ثم مضينا نسير بين غرف المرضى حتى مررنا على غرفة ليس فيها أسرة إنما فيها أكثر من ثلاثين رجلاً كل واحد منهم على حال؛ هذا يؤذن.. وهذا يغني.. وهذا يتلفت.. وهذا يرقص.. وإذا من بينهم ثلاثة قد اجلسوا على كراسي وربطت أيديهم وأرجلهم وهم يتلفتون حولهم ويحاولون التفلت فلا يستطيعون.
تعجبت وسألت الطبيب: ما هؤلاء ولماذا ربطتموهم دون الباقين؟ فقال: هؤلاء إذا رأوا شيئاً أمامهم اعتدوا عليه يكسرون النوافذ والمكيفات والأبواب لذلك نحن نربطهم على هذا الحال من الصباح إلى المساء.
قلت وأنا أدافع عبرتي: منذ متى وهم على هذه الحال؟ قال: منذ عشر سنوات وهذا منذ سبع سنوات وهذا جديد لم يمض له إلا خمس سنين.
خرجت من غرفتهم وأنا أتفكر في حالهم وأحمد الله الذي عافاني مما ابتلاهم.
سألته: أين باب الخروج من المستشفى؟
قال: بقي غرفة واحدة لعل فيها عبرة جديدة تعال، وأخذ بيدي إلى غرفة كبيره فتح الباب ودخل وجرني معه كان ما في الغرفة شبيهاً بما رأيت في غرفة سابقة مجموعة من المرضى كل واحد منهم على حال راقص ونائم.. ثم رأيت عجباً رجلاً جاوز عمره الخمسين اشتعل رأسه شيباً وجلس على الأرض القرفصاء قد جمع جسمه بعضه على بعض ينظر إلينا بعينين زائغتين يتلفت بفزع.
كل هذا طبيعي لكن الشيء الغريب الذي جعلني أفزع بل أثور هو أن الرجل كان عارياً تماماً ليس عليه من اللباس ولا ما يستر العورة المغلظة تغير وجهي وامتقع لوني والتفت إلى الطبيب فوراً فلما رأى حمرة عيني قال لي: هدئ من غضبك سأشرح لك.
هذا الرجل كلما ألبسناه ثوباً عضه بأسنانه وقطعه وحاول بلعه وقد نلبسه في اليوم الواحد أكثر من عشرة ثياب وكلها على مثل هذا الحال، فتركناه هكذا صيفاً وشتاء والذين حوله مجانين لا يعقلون حاله.
ثم مشي الطبيب ومشيت بجانبه وجعل يمر في طريقه بغرف المرضى ونحن ساكتان وفجأة التفت إليّ وكأنه تذكر شيئاً نسيه وقال: يا شيخ! هنا رجل من كبار التجار يملك مئات الملايين أصابه لوثة عقلية فأتى به أولاده وألقوه هنا منذ سنين.
وهنا رجل آخر كان مهندساً في شركة وثالث كان.. ومضى الطبيب يحدثني بأقوام ذلوا بعد عز، وآخرين افتقروا بعد غنى، وأخذت أمشي بين غرف المرضي متفكراً سبحان من قسم لأرزاق بين عباده يعطي من يشاء ويمنع من يشاء.
قد يرزق الرجل مالاً وحسباً ونسباً ومنصباً لكنه يأخذ منه العقل، فتجده من أكثر الناس مالاً وأقواهم جسداً لكنه محبوس في مستشفى المجانين.
فكان حرياً بكل مبتلى أن يعرف هدايا الله إليه قبل أن يعد مصائبه عليه، فإن حرمك المال فقد أعطاك الصحة، وإن حرمك منها فقد أعطاك العقل، وإن فاتك كثير من النعم فقد أعطاك الإسلام هنيئاً لك أن تعيش عليه وتموت عليه فقل بملء فيك: الحمد لله.
المصدر: من كتاب ( عاشق في غرفة العمليات ) .